جلس أبو الإلحاد الرقمي القرفصاء يلملم أفكاره ويراكم أوزاره.. لم يفتح عليه اليوم بشيء.. يا له من يوم عقيم من أيام "الإلحاد الإلكتروني" وياله من نهار مظلم من أيام "التنوير اللاديني" ترى لم غاب عنه اليوم شيطانه؟ ربما لأنه مال شيئا قليلا عن جادة الإلحاد.. تصور.. لقد خطر بباله لوهلة أن الإسلام قد يكون حقا دين الحق! كيف يحدث مثل هذا لمثله؟ إنه يتصفح أمهات كتب الملة الإسلامية كالغواص البصير, يتصيد العثرات, ويقتنص الهفوات, ويفرح بالتصحيف, ولا يبالي بتصحيح ولا تضعيف, يرى الجمال فيتوهم قبحه, ويرى الدليل كالشمس فيحسبه شبهة, يفعل ذلك كله ثم لا يشك في دينه طرفة عين..
تذكر نفسه يوما وهو في رحلة في بطون الكتب لاقتناص الشبهات المُردية, قلب مئات الصحائف دون طائل, لقد فضح النصارى الملاحدة.. لم يتركوا لنا شيئا يصلح شبهة إلا استخلصوه.. فماذا نصنع الآن؟ فجأة وجد شيئا جديدا لم يسبق إليه.. جحظت عيناه وتسمرت على الشبهة الموعودة.. شبهة بكر.. يا ليتهم ابتكروا نظاما لتسجيل براءات "الشبهات"... بدأ يدون الحديث "الغريب"..
ابتسم في شماتة وهو يحدث نفسه: "كيف يصدق المسلمون مثل هذا الكلام": [لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع بــغــل]!!!
بدأ يفرع وجوه بيان الشبهة.. "كيف يكون هذا كلام نبي: المرأة تسافر على بــغــل, فكيف تسافر مع بــغــل!!!..
بدأ بحثا "جوجليا" سريعا عن معاني حروف الجر: كتب: "هل تأتي "مع" بمعنى "على"؟ لم يأت بحثه بشيء فزاد سروره.. بدأ يدبح مقالته بكلام الأخفش والفراء.. حين فرك وجهه أحس بنتوء دقيق على أرنبة أنفه.. حاول النظر إليه كهيئة الأحول فرأى سوادا.. قام إلى المرآة فشرع يحك البثرة السوداء حتى تفتتت.. ثم عاد ليتم مقالته.. لما نظر إلى شاشة حاسوبه لم ير "بغلا" وإنما رأى "بعلا" ترى أين ذهبت النقطة؟
نظر مرة أخرى إلى موضع البثرة من أنفه.. ففهم أن نقطة "البغل" زالت من على أنفه.. وأن ليس في المكان بغل إلا هو.. لم يدر أيضحك أم يبكي.. رأى شبهته تتلاشى أمام عينيه كالسراب.. تتبع آثارها بفأرة الحاسوب ليلقيها في مثواها الأخير في "سلة المهملات"..
حتى في ذلك اليوم المخزي, لم يشك في إلحاده.. فما الذي دهاه اليوم؟ آه لقد تذكر.. إنه جاره سليمان.. إنه جاره منذ عشر سنين, يحييه.. يتبسم في وجهه.. يتفقده إن غاب.. يهنئه كل عيد.. يرسل إليه بين الحين والآخر بعض السمك والمحار.. سليمان بحار.. تصور.. إنه لم يعبس في وجهه يوما.. ولم يسمع منه كلمة عتاب.. ولم ينظر إليه يوما نظرة شزراء.. أيعقل أن يكون بهذه الأخلاق, ثم لا يكون لدينه دخل في ذلك؟ فرك أبو الإلحاد جبينه.. وشرد للحظات..
فعاوده السؤال: "ماذا لو كان هؤلاء على الحق؟"
انتفض في مكانه مرتعبا.. صفع وجهه مرات لعله يعود لرشده.. بعثر أوراقه.. أقعى وهو يضع كفه تحت ذقنه.. فجأة تبسم.. نعم الأمر واضح.. كيف شك في إلحاده لأمر كهذا؟ كل ما هنالك أن سليمان إنسان يتصرف بمقتضى آليات التطور التي قرأ عنها في منتديات "الجرب والجذام".. سليمان خلايا ذكية تجمعت عبر بلايين السنين واجتازت أهوال العصور الجليدية.. واصطفت بمحض الصدفة لتشكل كائنا متطورا يحييه ويبتسم في وجهه..
تخيل إنسان "البلتادون" وهو يجري في الأدغال مبتسما.. وأي شيء في الابتسامة.. التطور يفسر كل شيء.. لا بد أن أجداد سليمان اكتشفوا أن البسمة تضاعف من فرص النجاة في معركة البقاء.. لابد أنهم شهدوا انقراض بعض القبائل العابسة.. لابد أنهم جلسوا في الكهوف يتمرنون على هذه الحركة الغريبة, التي لا يكاد يجد لها تفسيرا ماديا إلا بعد مشقة وعنت وتكلف.. تخيل "لوسي" وهي تستقي الماء لتغسل أول مولود لها يولد من غير ذيل.. لا بد أنها استغربت من هذا الجنين المشوه.. وحُق لها.. فإن التطور بقي سرا دفينا حتى أفشاه الإمام الأكبر أبو الطفرات شارل دارون..
يالهم من مكابرين هؤلاء المسلمون.. حتى متى تظل الغشاوة على أعينهم.. ألم يروا "آردي" كيف أحاط الشعر الناعم وجهها الأسمر.. لعلها "أفروديت" زمانها.. ألم يكفهم جمال عينيها وهي تكتسي شيئا فشيئا ببريق عيون البشر؟ ماذا يريدون منا؟ أيريدون أن نحيي لهم إنسان "أسترالوبيثيكس" حتى يصدقوا العلم؟ طيب لينتظروا قليلا.. ليروا نهاية الوهم بأعينهم.. كريك فينتر سيبهر العالم بابتكار أول "كائن حي مصنع".. بعدما "صنع أول خلية صناعية"..
بدأ أبو الإلحاد يغوص في تأملاته المادية حتى كاد يفقد صلته بالواقع.. ففك إقعائه ثم انبطح على بطنه.. أحس بنفسه ملتصقا بالأرض حتى كاد وجهه يتهشم.. أحس بالغثيان.. أحس كأن انفجارا عظيما يحصل في رأسه.. اهتزت أفكاره.. اضطربت نفسه.. جلس يرتل ترانيم إلحادية "مهدئة" :
"يا أيتها الصدفة العمياء..
لك ندين وبك نستعين..
يامن لا نعرف لك مكانا فنأتيك, ولا نعرف لك وجها فنقصده..
أزيلي عنا الغم وأفيضي علينا العلم.."
ردد الكلمات التي وجدها في توقيع أحد صناديد منتديات "الجرب والجذام" على أمل أن يشعر بشيء من السكينة.. تصور "نيتشه" وهو يعزف مقطوعة شيطانية على "الأوتار الفائقة" فتتموج أشكال مرعبة تكاد تتخطى "حاجز بلانك" حينها انفصل أبو الإلحاد الرقمي عن عالمنا تماما واستحال كالهباء المبثوث يسبح في "العوالم المتوازية"...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق